×
A
A
A
خيارات

"الشروق" الجزائرية: أذربيجان بعد التحرير رصدت 3 مليار دولار لإعادة التعمير وتوطين مليون نازح

باكو، 26 سبتمبر (أذرتاج)
نشر مراسل جريدة "الشروق" الجزائرية عبد السلام سكية مقالة بعنوان "أذربيجان بعد التحرير.. يد للبناء وأخرى على الزناد". تعيد وكالة اذرتاج نشر المقال:
"بين سنة 1992 و2020 ثلاثة عقود من الاحتلال الأرميني لأجزاء واسعة من تراب أذربيجان، إذ تقول السلطات في العاصمة باكو إن أزيد من 20 بالمائة من أراضيها قد احتلّها الأرمن، الأمر الذي خلّف موجة نزوح لعشرات الآلاف من مواطنيها، لكن حربا دامت 44 يوما - والعالم في تلك الأثناء يصارع جائحة كورونا - كانت كفيلة باسترجاع الأراضي المحتلة.
3 عقود من الاحتلال والتدمير
عندما تسير في العاصمة باكو وحواضرها الكبرى ومختلف محافظات البلاد، لن تجد حفرا أو مطبات في الطرقات، لكن عندما تتجاوز بكيلومترات قليلة إقليم قاراباغ، تعي أن هنالك اختلافا جوهريا بين العاصمة باكو التي غادرتها والإقليم الذي أزوره، وتتيقن أن الجهة التي كانت مسيطرة على الإقليم لم تبنِ ولم تشيّد طيلة عقود ثلاثة.
استقليت السيارة بمعية زميل من الجزائر وصحفيين من مصر وأربعة ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي من قطر، إضافة إلى الدبلوماسي اميل رحيموف الذي كان مسؤول الوفد، كانت الوجهة فجر الثلاثاء 13 سبتمبر إلى مدينة “فضولي” في إقليم كارباخ، التي تبعد عن العاصمة باكو بـ300 كلم، كانت الأخبار ترِد من الإذاعة الحكومية عن التطورات الحاصلة في مدينة شوشة، التي نقلت عن وزارة الدفاع أن “الجيش رد على الاستفزازات الأرمينية وأوقع قتلى في صفوف العدو”، لم نكن نعلم أن الاشتباكات ازدادت اتساعا وخلفت حسب الحكومة الأذربيجانية 50 قتيلا في صفوفها، و200 في الجيش الأرميني.
بعد ساعات من السير وصلنا إلى أول نقطة تفتيش للشرطة والجيش، عند مدخل إقليم قاراباغ، طُلب منا ركن السيارة جانبا، وتم البدء في إجراءات مراقبة الهويات، لأن الأمر يتعلق بدخول منطقة عسكرية لا يزال بعض من تسمّيهم الحكومة في باكو بالمخربين والإرهابيين ينفذون بعض العمليات.
ألغام على طول 200 كلم
بعد دقائق فُتحت البوابة أمامنا، وتخطينا الحاجز المشترك للشرطة والجيش، لدخول “المناطق المحررة”، كان المنظر مختلفا عما شهدناه سابقا، وأول ما شدّ الانتباه إشارات التنبيه الدالة على وجود حقول ألغام زُرعت على جنبات الطريق يمينا وشمالا، من طرف الجيش الأرميني، إضافة إلى التدمير الشامل الذي لحق بالقرى التي كانت مأهولة بالسكان قبل الاحتلال الأرميني سنة 1992.
عن الوضعية الحالية، يقول المسؤول عن المحافظة المعيَّن من قبل الديوان الرئاسي لـ”الشروق”: “بعد التحرير، كانت المعاناة كبيرة مع الألغام التي زرعها المحتل.. المساحات التي تم احتلالها كبيرة جدا، وقد تساوي مساحة دولة كقطر أو لبنان”، ويتابع المتحدث “الاحتلال لم يفكر أبدا في العرف الدولي، واستخدم كل الوسائل الهمجية في المنطقة، وخط التماس طوله 200 كلم وعرضه 5 كلم، وكلها مزروعة بالألغام”.
نتيجة للألغام المزروعة، يصعب الآن استغلال الأراضي المحرّرة في مجال الفلاحة، فيما تخطط السلطات - وبعد انتهاء عمليات نزع الألغام - لإعادتها إلى نشاطها الطبيعي الفلاحي، خاصة وأنها صالحة لزراعة العنب والقطن، إضافة إلى تربية النحل.
في مدينة “أغدام” لا تتغير الصورة، قرى مهدمة بالكامل، حتى الحديد تم نهبه قبل انسحاب الأرمن، زيادة على زرع عشرات الآلاف من الألغام، هذه الإشكالية سارعت السلطات إلى حلها، لإعادة توطين 100 ألف نسمة، لتصبح رابع أكبر مدينة في البلاد.
عند وصولنا إلى المديدة وجدنا عناصر من وكالة نزع الألغام “ANAMA” تتولى عمليات نزع الألغام، التي تتم تحت إشراف السيد “احترام” الذي أكد في حديث مع “الشروق” أن “الأراضي أصبحت مؤمَّنة الآن، وتم وضع خطة متكاملة لتشييد البنى التحتية، رغم الصعوبات لاسيما عدم تسليم الأرمن لخرائط الألغام”.
مساجد تتحول إلى إسطبلات
آثار قصف أرميني على مدينة غنجة خلف 26 قتيلا
أذربيجان دولة مسلمة ونسبة الإسلام في حدود 96 بالمائة، الأمر الذي يفسر وجود عدد كبير من المساجد، بما في ذلك المساجد العتيقة في مختلف مدنها ومحافظاتها، كما هو الحال في قاراباغ حيث يتواجد 80 مسجدا.
يؤكد المسؤول في إقليم قاراباغ المعين من الديوان الرئاسي لـ”الشروق” أن “جميع المساجد قد تم تدميرها أو تحويلها إلى حظائر لتربية الأغنام والخنازير”.
عاينت “الشروق” في مدينة “فضولي” مسجد “مرديلي” والذي سُمّي نسبة إلى القرية الواقع بها، ويعود بناء هذا المسجد إلى سنة 1330 هجري، حسب ما هو مكتوبٌ عند مدخله أي ما بين 1911 و1922 ميلادي.
عند أطراف المسجد توجد لافتاتٌ تدل على وجود ألغام تم زرعها وتحذر من الاقتراب أكثر، دخلتُ المسجد الذي لم يتم تهيئته إلى حد الساعة لإقامة الصلوات، زيادة على أن السكان لم يعودوا إلى منازلهم بعد، أول شيء يثير داخل المسجد هو رائحة فضلات المواشي على الرغم من رفع الفضلات من داخله والقيام بعمليات مكثفة لتنظيفه.
المسجد الآخر الشاهد على تحويله إلى حظيرة لتربية الأبقار والخنازير، كان في مدينة “اغدام” 335 كلم جنوب العاصمة باكو، والتي تشتهر بمسجدها العتيق “مسجد جمعة” الذي انطلقت أشغال بنائه سنة 1868 وانتهت سنة 1870، وتولى تصميمه المهندس المعماري “سفيخان”.
عند وصولنا للمسجد بعد رحلة متعبة جدا نتيجة للطريق المتهرئ، وجدنا نقطة مراقبة للشرطة، وعدد من العمال والفنيين يتولون عملية الترميم، والإبقاء على الزخارف الأصلية للمسجد.
عن وضعية المسجد، يقول مسؤول المدينة المعيَّن من الديوان الرئاسي “المسجد كغيره من المساجد في المنطقة، تم تحويله إلى حظيرة لتربية الحيوانات، وكتابة كلمات بذيئة للغاية”، وللتأكيد على ما يقول يستظهر صورا فوتوغرافية من داخل المسجد تظهر وجود أبقار بداخله، وكميات كبيرة من مخلفات الماشية.
اسأل ذات المسؤول: “بخلاف المساجد الأخرى، لماذا لم يتم تهديمه؟”، فيردّ “خلال حرب التحرير الثانية، قام الجيش الأرميني بالتحصّن بداخله، وجعله نقطة مراقبة، وهم يعلمون أننا لن نقصف بيوت الله”.
مطار في 8 أشهر!
الاهتمام الكبير الذي يحظى به إقليم قاراباغ من السلطات المركزية في باكو بعد عملية التحرير، يظهر في عمليات إنجاز البنى التحتية، سواء على مستوى الضخامة والسرعة، وإن ارتبط تحقيق الأرقام القياسية في هذا المجال بالصينيين، إلا أن أذربيجان دخلت “نادي الكبار” في هذا المجال، بعد بناء “مطار فضولي الدولي” في مدة 8 أشهر، وهذا لاختصار الطريق نحو مدينة شوشا.
المطار الذي دخلته “الشروق”، الذي أنجز في هذا الظرف القياسي لا يختلف عن أي مطار دولي في العالم، من حيث التجهيزات والاتساع والتأمين، مع توفره على كافة المقومات.
عما تحقق وما سيتم في إقليم قاراباغ، يتحدث الدبلوماسي اميل رحيموف: “تم انجاز المطار في وقت قياسي، ربما حتى دول متقدمة ستعجز عن تحقيق هذا الشيء، والرسالة الثانية التي تبعث بها أذربيجان أن قاراباغ أرضٌ أذربيجانية وجزء لا يتجزّأ منها، وإن كان المحتل الأرميني وطيلة 30 سنة لم يبنِ أو ينجز شيئا، لكن على العكس، نحن نقوم بالبناء والإنجاز والتشييد على أرضنا التي استرجعناها”، ويضيف: “لقد رأيتم بأم أعينكم حتى الطرقات اهترأت عن آخرها، ونحن نتولى الآن انجاز طريق سيار”.
وبلغة الأرقام يكشف رحيموف: “تم تخصيص غلاف مالي معتبر لإعادة الإعمار، الأول بـ1.5 مليار دولار، وتمت إضافة ميزانية ثانية بقيمة 1.5 مليار دولار، والهدف توطين مليون مواطن نزح مع بداية الاحتلال الأرميني للإقليم، وفي مدينة فضولي، حيث نتواجد سيقطنها قريبا 100 ألف نسمة”.
قرية ذكية
صحفي الشروق في إقليم قراباغ
في جنوب البلاد ووسط الجبال وعلى بعد 400 كلم، تتواجد مدينة “زنجلان”، ومنها يمكن رؤية القرى الإيرانية في الجانب الآخر من الحدود، إذ لا يفصل بينهما إلا واد.
الوصول إلى “زنجلان” كان متعبا، ليس بسبب البعد وصعوبة التضاريس، ولكن لحالة الطرقات المهترئة بشكل كلي، عندما تسير في الطريق القديم، يظهر لك الطريق السريع الذي تتولى الحكومة انجازه، إضافة إلى خط للسكك الحديدية.
بعد ساعات طويلة من السير، والمرور على حاجزين للشرطة والجيش، وصلنا إلى قرية نموذجية بنتها الحكومة وأطلقت عليها اسم “القرية الذكية”، الاسم الذي تم اختياره ينطبق تماما على القرية فهي بحق ذكية.
القرية يظهر جمال عمرانها الأبيض وأسطح القرميد الخضراء، وتتوسطها نافورة بهية، ما يميز القرية الذكية التي تقطنها حاليا 66 عائلة –مخصص لـ100 عائلة- أن 70 بالمائة من الكهرباء متأتية من الطاقة الشمسية، كما تم تزويدها بكل المرافق الإدارية، والمدرسة والروضة والبريد والبنك ومركز صحي.
توجهتُ إلى البنك المتواجد في القرية، فوجدته يتوفر على جميع الخدمات، وبجواره وكالة أخرى عبارة عن إدارة الكترونية تم تخصيصها لتسوية الملفات الإدارية الخاصة بالتقاعد والضمان الاجتماعي.
الخدمات الإلكترونية تم تعميمها على القرية، إلى درجة أنه يمكن طلب الاستشارة الطبية من مختلف المستشفيات في أذربيجان.
أذربيجان تخلد ضحاياها
كان يُفترض أن تكون محطتنا بعد “زنجيلان”، مدينة شوشا، لكن المواجهات مع الجانب الأرميني –خلفت 50 قتيلا من الجانب الأذربيجاني و200 من الأرمن- حتَّم إلغاء الزيارة والتوجه إلى مدينة “غنجة” ثاني أكبر مدن البلاد، والتي وصلناها ليلا.
قبيل الوصول إلى هذه المدينة الهادئة، تظهر عند جنبات الطرق الرئيسية، صورٌ للعسكريين الذين قُتلوا خلال الحرب الأولى والثانية ضد أرمينيا.
تخليد من قُتلوا خلال الحرب، مسألة مقدسة للغاية في أذربيجان، ففي اليوم الثاني من إقامتنا بـ”غنجة”، توجهنا إلى حديقة النصر التي تم استهداف البنايات المحيطة بها من قبل الأرمن في الفترة بين 4 و17 أكتوبر سنة 2020 خمس مرات.
وفي ساحة الحديقة، نُصِّبت لافتتان كبيرتان؛ الأولى لضحايا قصف أرميني طال منازل سكنية وخلّف مقتل 26 شخصا بينهم 6 أطفال، وفي الثانية للعساكر الذين قتلوا خلال الحرب الأولى والثانية ضد أرمينيا.
كما حرصت السلطات في المدينة، على إبقاء مخلفات القصف الذي طال المنازل السكنية والبنايات المهدمة، والحفرة التي خلفتها الصواريخ التي أطلقت حسب المسؤولين هنالك من داخل الأراضي الأرمينية على بعد 100 كلم، وتجد في المكان بعض ألعاب الأطفال الذين ذهبوا ضحية القصف، إذ تم تركها في عين المكان للدلالة على هول الجريمة.
خلال الزيارة التقينا نائبَ محافظ “غنجة” الذي حدثنا عن الظروف التي مرت بها المدينة خلال الحرب الأخيرة، وقال “المدينة دفعت 69 شهيدا في حرب 2020، وأكثر من 300 في الحرب الأولى، وكما تشاهدون ما تم استهدافه نقاط مدنية وليست عسكرية”.
تخليد الضحايا هو ما وقفنا عنده في مدينة “اغدام” التي قدمت 6 آلاف ضحية، حيث تتواجد مقبرة لضحايا الحرب، وفيها دُفن عددٌ من ضحايا مجزرة خوجالي الذين اعدِموا يومي 25 و26 فيفري سنة 1992، وخلفت 613 ضحية.
على خلاف المقابر في الجزائر، يقوم الأذربيجانيون بوضع صور الميت فوق القبر، مع رفع الراية الوطنية، وأكثر ما يشدّ في المقبرة، عائلة كاملة دُفنت بجوار بعضها وهم من ضحايا مذبحة خوجالي.
والتخليد الأكبر لضحايا البلاد، في “مقبرة الشهداء” بالعاصمة باكو، وهي شبيهة عندنا بمقبرة “العالية”.
متحف لغنائم حرب الـ44 يوما
آلية للجيش الأرميني مدمرة
في كورنيش العاصمة “باكو” الجميل تم إنشاء متحف مختلف عن المتاحف العادية، إنه متحفٌ يخلّد انتصار أذربيجان على أرمينيا في الحرب التي دامت 44 يوما (بدأت يوم 27 سبتمبر وانتهت في 10 نوفمبر 2020).
في “متحف الغنائم” كما أطلِق عليه، نجد عددا كبيرا من الآليات العسكرية بعضها لا يزال سليما، غنمتها أذربيجان بعد انتصارها في الحرب، وعند آلية يتم وضع بطاقة تعريفية.
الملاحظ حول الآليات والعربات في المعرض أن غالبيتها تحمل رمز “الصليب”، وهو ما يدل على أن الأرمن وفي حربهم أرادوا أن تكون حربا دينية، كيف لا، وهم "أول دولة مسيحية في العالم".
وفي منتصف المتحف جدارية كبيرة مكتوبٌ عليها “قاراباغ هي أذربيجان”، وفي الوسط 2000 لوحة ترقيم للآليات العسكرية الأرمينية التي تم إعطابها والاستيلاء عليها، وفي هذا الخصوص يقول الدبلوماسي رحيموف “كنا نقول للعالم إننا قادرون على استعادة أرضنا المحتلة، وفضّلنا أن يكون ذلك بالطرق السلمية والدبلوماسية، لكن مع الاستفزازات المتكررة، خُضنا الحرب وانتصرنا”، ويتابع رحيموف “كبَّدنا أرمينيا خسائرَ كبيرة تتراوح بين 3 و4 ملايير دولار، والأهم من ذلك استعدنا أرضنا وشرعنا في معركة التعمير الآن، وإعادة توطين أبناء الوطن بعد نزوح دام 30 سنة”."

سياسة 2022-09-26 09:50:00