×
A
A
A
خيارات

د. ماهر حميدوف يكتب: الشرق والغرب – إبداعات عائدة إيمانقولييفا .. عوالم مختلفة وقيم مشتركة

باكو، 9 أكتوبر (أذرتاج).
لطالما كان التواصل حاضرًا بين أوروبا وبلاد الشام، التي تضم اليوم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وتم إنشاء مراكز تعليمية في هذه المناطق، وخاصة للعرب المسيحيين.
هذه المؤسسات التعليمية خرّجت مثقفين ومفكرين، في ريعان شبابهم، شقوا الطريق أمام الأدب العربي الحديث في القرن العشرين، وشكلوا طليعة رواد أدب المهجر.
وهناك آثار للاتجاهات الأدبية والفلسفية المختلفة في إبداعات أدباء المهجر، الذين يتمتعون بخلفيات ثقافية وحضارية متنوعة.
وتأتي العالمة والباحثة في الشؤون العربية والمفكرة الأذربيجانية عائدة إيمانقولييفا، في مقدمة الذين درسوا هذه الإبداعات بطريقة علمية في سياق الأدب المقارن، إذ استطاعت تقديم هذا التراث من منظور جديد ليس للقارئ الأذربيجاني فقط، بل للمجتمع الدولي أيضا.
إن التراث الأدبي والفلسفي لأدباء المهجر الذي درسته إيمانقولييفا، يجمع في طياته ملامح من أدب وفكر الشعوب من روسيا وأوروبا وأمريكا، وتبرز فيه مذاهب فكرية من الغرب والشرق إلى جانب أثر الفكر الصوفي في العالم الإسلامي.
ومما لا شك فيه أن الدراسة المقارنة لأي مذهب أو إبداع أدبي ليس بالأمر السهل على الإطلاق، ويغدو أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بأعمال أدباء المهجر، حيث تتجسد في إبداعاتهم قيم وثقافات مختلفة.
لقد رسمت الحضارتين الإسلامية والمسيحية ملامح هوية هؤلاء المبدعين، والتي تبلورت لاحقا بتأثير المفكرين الأمريكيين والروس إلى جانب الحضارات الهندية القديمة، الأمر الذي مهد لظهور شخصيات علمية وأدبية جديدة.
كان أدباء المهجر مطلعين على نتاج المفكرين المسلمين من أمثال الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، وابن سينا، وأبو العلاء المعري، وجلال الدين الرومي، إلى جانب مذاهب التصوف المسيحي، وأعلام الفلسفة الاستعلائية، فضلا عن وقوفهم على النظم الفكرية والعقائدية في الشرق الأقصى والقيم التي يمثلها كل من بودا وبراهما ولاتسو.
إن الدراسات المقارنة لأعمال هؤلاء الأدباء بما يحملونه من فكر يتطلب حيازة نفس القدر من المعرفة على الأقل. ومن هذا المنطلق، فإن مقارنة النتاج الأدبي والفلسفي لأدباء المهجر مع الشخصيات التي سبق ذكرها؛ يدل على أن السيدة عائدة ليست مجرد متخصصة في الأدب العربي وحسب، بل أيضا ضليعة في الاتجاهات الأدبية والفلسفية المختلفة والقيم الثقافية المتنوعة.
ورغم خبرة السيدة عائدة بالأدب العالمي، لاسيما الأدب الروسي والتركي والانكليزي والفرنسي، إلا أنها تعمقت في الشعر الجاهلي والأدب العربي بعد الإسلام وُصُولًا إلى الأدب العربي الحديث، الذي شمل أنواعا جديدة برزت تحت التأثير الأوروبي في القرن التاسع عشر.
ومن هنا يمكن القول أن إيمانقولييفا نجحت في تقديم دراسة رصينة لأدب المهجر، ورؤية فاقت ما نسجه باحثون عرب، اكتفوا في الغالب بتقديم سير ذاتية ونماذج من إبداعات المهجر لبعض الشعراء والكتاب، في إطار مقاربات أقرب إلى السطحية.
أما السيدة عائدة فاعتمدت في مقارباتها نهجًا علميًا قائمًا على الغوص في أعماق النتاج الأدبي المهجري، مع مراعاة القيم الثقافية المتنوعة في مسعى للإحاطة بعموم المسألة.
وبالحديث عن المذاهب الأدبية، فإن إيمانقولييفا نجحت وبمهارة في إلقاء الضوء على الإبداع المبكر لجبران خليل جبران، وانتقاله من المذهب الوجداني إلى الرومانسي، ودور أمين الروحاني في بلورة الرومانسية في الأدب العربي، فضلا عن استلهام ميخائيل نعيمة الواقعية من الأدب الروسي.
وحول دراسات إيمانقولييفا في هذا المضمار، يقول المستعرب والأكاديمي الأذربيجاني واصم محمد علييف: “لقد أبرزت السيدة عائدة أن جبران تأثر بالرومانسية الغربية، فيما تأثر نعيمة بالواقعية النقدية التي برزت في روسيا، ويعود ذلك إلى نظرتهما للعالم والمحيط الذي استقروا فيه، فضلا عن غاياتهم الأدبية واتجاهاتهم الإبداعية. والمؤلفة محقة في استنتاجها بأن جبران ونعيمة تأثرا بكل من رالف والدو إمرسون، وفيكتور هوغو، ويو أويتمة، وإن تورو، وبايرو، فيما يلاحظ تأثّر نعيمة الذي درس في مدينة بولتافا (في أوكرانيا حاليًا) بكل من تولستوي، وتشيخوف، وإيفان تورغينيف، وفي مقالاته الأدبية النقدية بفيساريون بلنسكي”.
كانت العلاقة بين الشرق والغرب؛ تشكل الدافع الرئيسي لأبحاث عائدة إيمانقولييفا، هذان القطبان كانا على طرفي نقيض لعدة قرون، حيث عكفت الباحثة على دراسة كيفية انعكاس القواسم المشتركة بينهما ونقاط الاختلاف الأدبي، أي أنها كانت تبحث في قيم الثقافات المتعددة.
وفعلا نجحت إيمانقولييفا بتصدر المشهد في مجال الأدب المقارن المتعلق بأدب المهجر، ومن أبرز مؤلفاتها في هذا الإطار، والتي تعتبر مثالا يحتذى، “ميخائيل نعيمة والرابطة القلمية”، و”روّاد الأدب العربي الحديث”، و”جبران خليل جبران”.
بالنسبة لنعيمة، فإن إيمان قولييفا تحدثت بالأمثلة عن مقارنة النتاج الأدبي للأديب العربي مع الأدب الروسي. إذ كان منذ شبابه على تواصل وثيق بالأدب والثقافة الروسيين، ودائما ما عبر عن إعجابه بكتابهم الرواد من أمثال تولستوي ودوستوفسكي وتورغينيف وبلينسكي وتشيخوف وبوشكين وغوغول.
ويبرز تأثير الأدب الروسي في إبداعات نعيمة من خلال اتجاهين: الأول، الدعوة للأفكار الإصلاحية من خلال الأدب، واضطلاع الأدب بدور اجتماعي، وتأثير أدباء روس في طريقة تفكير نعيمة، وبالأخص ما يتعلق بالدين، والكنيسة، والوجود.
لقد حددت عائدة إيمانقولييفا تأثير الكلاسيكيات الروسية في أعمال نعيمة الذي كان يميل للتجديد، حيث قامت بدراسة أدبية مقارنة بناءً على أمثلة محددة.
كمت تحدثت إيمانقولييفا عن دور آراء وأفكار الناقد الأدبي الروسي الشهير فيساريون بيلنسكي في تشكيل جمالية النقد الأدبي لدى نعيمة، الأمر الذي ساعده على تجاوز التفكير النقدي العربي الكلاسيكي إلى التركيز على الوظيفة الرئيسية للأدب.
وتشير إيمانقولييفا إلى أن نعيمة تحدث مثل بيلينسكي عن أهمية المسرحية، في توجيه المجتمع بالاتجاه الصحيح، وعرض الحقيقة مباشرة على الجمهور من خلال المشهد المسرحي. ومن خلال عرضها للقواسم المشتركة بين الكاتبين البارزين، تؤكد عايدة على أن دور نعيمة التربوي والإصلاحي داخل المجتمع العربي لا يقل عن دور بيلينسكي في المجتمع الروسي.
لقد لعب الأدباء الروس دورا مهما في بلورة شخصية نعيمة ككاتب قصة. وترى إيمانقولييفا عقب مقارنتها نعيمة مع كل من تشيخوف وتورغنييف أن تأثر الأخير على الأديب العربي كان أكثر وضوحا. وتلفت إلى التشابه الكبير بين مسرحية “الآباء والبنون” لميخائيل نعيمة، وعمل يحمل الاسم نفسه لتورغنييف، وذلك بعد مقارنة العملين، وتقديم تحليل شامل تشير من خلاله إلى أن أوجه الشبه لا تنحصر في الاسم فقط بل تتعداه إلى الحبكة والأبطال.
وفيما يتعلق تشكيل شخصية نعيمه الأدبية، فقد لعب تولستوي بلا شك دورًا كبيرا في ذلك، خاصةً في آراء نعيمة حول الدين والكنيسة والوجود. وترى إيمانقولييفا أن تولستوي كان ملهما لنعيمة في التطرق لموضوعات ذات دوافع دينية، وتشدد على دور أفكار الكاتب الروسي البارز في تغيير موقف نعيمة من الكنيسة ورجال الدين.
لم تكتف العالمة والباحثة في الشؤون العربية عائدة إيمانقولييفا بمقارنة الأدباء الروس مع أدباء المهجر، بل تطرقت أيضا إلى تأثير الأديب الأمريكي رالف والدو إمرسون أبرز أعلام الفلسفة الاستعلائية على رواد الأدب المهجري.
وتشدد إيمانقولييفا على أن نعيمة، على وجه الخصوص، وفي المرحلة الثالثة من نشاطه، بنى إبداعه الأدبي وفق المبادئ الأساسية للفلسفة الاستعلائية، ولاحقا كتب في مواضيع فلسفية مثل الوجود، وجوهره، والموت.
وهناك تقارب بين منظور نعيمة للحياة، ونظرة الفلاسفة الاستعلائيين الأمريكيين في هذا الصدد، والتي تقوم على تقديم الحدس على المنطق والأسباب العقلانية للوصول إلى إدراك الحقيقة.
في الواقع، هذا النمط من التفكير لا ينحصر بالفلاسفة الاستعلائيين الأمريكيين، بل يمكن ملاحظته في المعتقدات الهندوسية القديمة، ولدى مختلف الاتجاهات الصوفية، بما في ذلك التقاليد الصوفية الإسلامية.
ومن بين الحقائق التي أبرزتها إيمانقولييفا، اهتمام نعيمة بالثقافات المختلفة وارتباط إبداعاته بها وتركه أثرا بارزا في الأدب العربي الحديث مستفيدا من هذه العلاقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن النقاد العرب يقولون إن أول عمل قصة قصيرة في الأدب العربي الحديث، يتمثل بقصة “في القطار” التي كتبها المؤلف المصري محمد تيمور عام 1917.
لكن إيمانقولييفا تذهب إلى أبعد من ذلك، وتتناول من منظور الأدب المقارن كلا من القصة المذكورة، وقصتين لميخائيل نعيمة ألفهما بين عامي 1914 و1915 ، الأولى بعنوان ” سنتها الجديدة” والثانية بعنوان “العاقر”.
وتشير إيمانقولييفا إلى أن الحبكة في قصتي نعيمة أكثر نجاحًا من قصة محمد تيمور، قائلة “في الوقت الذي اكتفى فيه تيمور بمجرد تحليل المظاهر الخارجية لأبطال قصته، تمكن نعيمة من اختراق العوالم الداخلية لأبطاله، وكان إيصال حالاتهم النفسية للقارئ”.
في المحصلة استطاعت إيمانقولييفا أن تثبت أن قصتي نعيمة المذكورتين، يمكن اعتبارهما أول نموذجين للرواية القصيرة في تاريخ الأدب العربي، وهي مقاربة مختلفة عما ذهب إليه معظم الأدباء العرب.
وبالنظر إلى الدراسات المقارنة التي أجرتها، فإن عائدة إيمانقولييفا، رسمت لنفسها نهجا يميزها، وهي ليست مجرد باحثة معروفة، لكنها أيضًا خبيرة متبحّرة في الثقافات والاتجاهات الأدبية والفلسفية المختلفة، كما أن تقييماتها وأبحاثها تتم في إطار عالمي يراعي قيم الثقافات المتعددة. وبالتالي فإن الوقوف على أعمال الباحثة المتميزة يساعدنا على اكتساب نظرة ثاقبة في المجالات الثقافية المختلفة والنظر إلى الأدب العالمي من منظور واحد.
سيبقى الأدب العربي في المهجر، ومؤلفات إيمانقولييفا التي كرست حياتها لإبراز إبداعاته ودراسته، مرجعًا ثمينًا لكل باحث في هذا العصر؛ يحاول إيجاد قيم مشتركة بين الشرق والغرب

علم وتعليم 2019-10-09 14:29:00